يوسف ضياء الدين الخالدي
ولد يوسف ضياء الخالدي في مدينة القدس لعائلة مقدسية عريقة. والده محمد علي كان موظفاً كبيراً في المحكمة الشرعية في القدس؛ أنجب خمسة أبناء (ياسين، عبد الرحمن، يوسف، خليل، راغب) وثلاث بنات. جده لأمه موسى الخالدي كان قاضي عسكر الأناضول. تزوج يوسف ضياء الخالدي، وأنجب ابنة واحدة.
تلقى يوسف ضياء الخالدي تعليماً دينياً تقليدياً في "المدرسة الفخرية" في القدس، لكنه بحث عن تعليم على النمط الغربي لأسباب يشرحها في سيرته الذاتية، إذ اكتشف أن الأوروبيين يسيطرون على الشعوب الأخرى بفضل تعليمهم العالي، المترافق مع جهل خصومهم. وعندما لم يسمح له والده بالسفر إلى البلدان الأوروبية، هرب مع ابن عمه إلى جزيرة مالطا التي كانت تحت السيطرة البريطانية آنذاك، وحيث رتّب له أسقف القدس الأنجليكاني "صموئيل غوبات" فرصة الالتحاق بالكلية البروتستانتية، التي بقي فيها عامين، درس خلالهما الحساب واللغات اليونانية والفرنسية والإنكليزية، وذلك إلى أن قرر شقيقه الأكبر ياسين نقله إلى معهد الطب الملكي في الآستانة، لكن دراسة الطب لم ترق له، فتركها بعد عام والتحق بكلية روبرت الأميركية للهندسة التي بقي فيها عام ونصف العام، قبل أن يتركها ويعود إلى القدس، في سنة 1865، بسبب وفاة والده.
بفضل تعليمه في القدس، ومالطا، وإسطنبول، واتقانه لغات أجنبية عديدة، وانتسابه إلى عائلة عريقة، لفت يوسف ضياء الخالدي إليه انتباه بعض رجال الدولة المصلحين، مثل محمد رشيد باشا والي الشام، الذي كان مسؤولاً عن إدارة سنجق القدس قبل إقامة متصرفية القدس في سنة 1872.
كان النشاط الأول الذي قام به يوسف ضياء الخالدي، بعد عودته إلى مدينة القدس، هو تأسيس مدرسة رشدية حكومية، توقع أن يعيّن مديراً لها، لكن أمله خاب بعد أن أرسلوا أستاذاً تركياً من إسطنبول لتولي هذه المهمة. بيد أن خيبة أمله لم تدم طويلاً، إذ عيّن رئيساً لبلدية القدس، "من جانب شعب القدس والحكومة التركية" بحسب قوله. وهو شغل هذا المنصب خلال خمسة أعوام (1870-1874)، ثم شغله فيما بعد، خلال أعوام أخرى، في مناسبتين. وبدعم من محمد رشيد باشا والي الشام، أشرف يوسف ضياء الخالدي على تنفيذ مشاريع كثيرة لتطوير المدينة، وإنشاء الشوارع فيها وإصلاحها وصيانتها، ومد شبكة مياه وتعبيد طريق صالحة لسير العربات بين القدس ويافا.
عندما رجع محمد رشيد باشا إلى إسطنبول، بعد أن عُيّن وزيراً للخارجية في سنة 1874، تبعه يوسف ضياء الخالدي بناء على طلبه، وعيّن أولاً في مكتب الترجمة في الوزارة، ثم حصل على منصب قنصل عثماني في مدينة بوتي على البحر الأسود، وهو منصب لم يشغله سوى خلال ستة أشهر. وبعد أن أمضى شهرين في جولة في روسيا، زار خلالها أوديسا وكييف وموسكو وسان بطرسبورغ، انتقل، في مطلع سنة 1875، إلى مدينة فيينا، حيث كان محمد رشيد باشا قد أصبح سفيراً للسلطنة العثمانية فيها. وبفضل مساعدة هذا الأخير، عيّنته الأكاديمية الملكية للدراسات الشرقية أستاذاً لتعليم اللغتين العربية والتركية. وخلال إقامته في فيينا، أظهر اهتماماً بالأمور السياسية وبأحوال الطائفة اليهودية في القدس، إذ نشر مقالين في جريدة Jewish Chronicle البريطانية، ناقش في الأول منهما تقرير مراسل الجريدة عن أوضاع اليهود الصعبة في القدس، ونصح في الثاني منهما موشي مونتفيوري، الثري اليهودي البريطاني، الذي كان يزور فلسطين، بإنشاء مدارس تعلّم اليهود فنون الزراعة، بدلاً من توزيع أموال الجباية السنوية عليهم.
بعد ثمانية أشهر قضاها في فيينا، عاد يوسف ضياء الخالدي إلى مدينة القدس، حيث تسلم رئاسة بلديتها لفترة قصيرة. وعقب قيام السلطان عبد الحميد، في سنة 1876، بإصدار الدستور العثماني، اختير، في العام التالي، مبعوثاً إلى مجلس المبعوثان، فكان النائب الوحيد عن متصرفية القدس، وواحداً من أربعة عشر عضواً عربياً من بين أعضاء المجلس المائة والعشرين. وخلال الدورتين القصيرتين لمجلس المبعوثان في 1877 – 1878، برز يوسف ضياء الخالدي بصفته خطيباً مفوهاً، وعضواً بارزاً في صفوف المعارضة لسياسة السلطان عبد الحميد ونصيراً حازماً لسياسة الإصلاح وتعزيز الحياة الدستورية. وقد وصفه القنصل العام الأميركي في إسطنبول بأنه "ترك تأثيراً في البرلمان ببلاغته وجرأته".
بعد قرار السلطان عبد الحميد، في 13 شباط/ فبراير 1878، بتجميد العمل بالدستور وحل مجلس المبعوثان، تقرر نفي عشرة أعضاء من المعارضة خارج الأستانة، كان يوسف ضياء الخالدي من ضمنهم. وفي 14 آذار/ مارس من ذلك العام، وصل إلى القدس، حيث تسلم رئاسة بلديتها من جديد. لكنه اختلف مع متصرف القدس رؤؤف باشا، الذي أبعده عن رئاسة البلدية، فسافر، في تشرين الأول/ أكتوبر 1879، إلى مدينة فيينا، وعاد إلى تدريس اللغة العربية في أكاديمية اللغات الشرقية، كما أصدر هناك، في العام التالي، ديوان الشاعر لبيد بن ربيعة العامري الذي عاش في أواخر عهد الجاهلية وصدر الإسلام، وقد طبع منه الجزء الأول سنة 1880، وجعل له مقدمة وشرحاً، وترجمت هذه الطبعة إلى اللغتين الألمانية والإنكليزية.
في سنة 1881، بُعيد عودة يوسف ضياء الخالدي إلى القدس، عُيّن قائمقاماً في يافا، وفي العام التالي عُيّن في مرجعيون. ثم تولى إدارة مقاطعة موطكي في ولاية بتليس ذات الأغلبية الكردية (في تركيا حالياً). وخلال عمله هناك، درس اللغة الكردية، فأتقنها وأصدر معجماً كردياً-عربياً بعنوان" الهدية الحميدية في اللغة الكردية". نُشر المعجم في سنة 1892 في العاصمة العثمانية، وحوى الآلاف من مفردات اللغة الكردية الأصيلة، فضلاً عن مقدمة حول بنية اللغة الكردية وخصائصها القواعدية. وقد مدح المثقفون الكرد مؤلف القاموس، ورأوا أنه أسدى بعمله هذا إلى المكتبة الكردية واللغة الكردية معروفاً لا يمكن نسيانه مدى الزمن. ومن انجازاته كذلك استنساخه نسخة من "رسالة الغفران" للمعري، عن النسخة الأصلية التي كانت محفوظة بمكتبة كوبرلي في إسطنبول، إنما لم يستطع طبعها بسبب سفره إلى بلاد الأكراد.
رجع يوسف ضياء الخالدي في سنة 1893 إلى الآستانة بعد أن رضي عنه السلطان عبد الحميد، فرقّاه إلى رتبة باشا، وفي الأعوام الأخيرة من حياته، عيّنه في عدة مناصب رفيعة من دون أن يسمح له بتوليها فعلياً، فارضاً عليه ما يشبه الإقامة الجبرية. وخلال وجوده في إسطنبول، أصبح صديقاً مقرباً من سجين افتراضي آخر للسلطان، كان يتبنى أفكاراً خطيرة، هو السيد جمال الدين الأفغاني، رائد الإصلاح الديني. وفي الوقت نفسه، وبفضل مكاتب بريد أجنبية، عير خاضعة لرقابة جواسيس السلطان، وخصوصاً مكتب البريد النمساوي، ظل على اتصال بالشاعر الكبير أحمد شوقي وبالشيخ محمد عبده في مصر، وبعدد من المثقفين الأوروبيين.
في رسائله المنتظمة إلى شقيقه ياسين وإلى ابن شقيقه روحي الذي ساعد في تعليمه، ومع اقتراب نهاية القرن، صار يوسف ضياء الخالدي يشير بصورة متزايدة إلى تدهور صحته، وصار يظهر بأن الحياة في إسطنبول، تحت أعين جواسيس عبد الحميد، لم تكن تناسبه، وذلك على الرغم من أنها اتاحت له فرصة المطالعة المستمرة لمؤلفات في العديد من المجالات العلمية والأدبية، وبعدد من اللغات التي كان يتقنها.
تابع يوسف ضياء عن كثب تقدم مشروع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، عندما كان رئيساً لبلدية القدس وقائمقاماً ليافا. وبعد انعقاد المؤتمر الصهيوني العالمي الأول في آب/ أغسطس 1897، برز يوسف ضياء الخالدي بصفته من أوائل من تنبهوا إلى خطر مشروع الحركة الصهيونية على مستقبل فلسطين، فأرسل، في الأول من آذار/ مارس 1899، عن طريق الحاخام الأكبر في فرنسا زادوك كاهن، رسالة إلى رئيس المنظمة الصهيونية العالمية تيودور هرتزل، دعاه فيها إلى مراعاة الواقع الملموس القائم في فلسطين، وكتب:
الواقع يفيد بأن فلسطين تشكّل حالياً جزءاً لا يتجزأ من الإمبراطورية العثمانية، والأخطر من ذلك، هي مسكونة بسكان من غير اليهود، وهذا الواقع، وهذه الحقائق المكتسبة، وهذه القوة الفجة للأوضاع تجعل أنه ليس للصهيونية من الناحية الجغرافية أي أمل في التحقق، وما هو مهم بصورة خاصة أنها تعرض وضع اليهود في تركيا إلى خطر حقيقي. [...]
فما هي القوى المادية التي يمتلكها اليهود كي يفرضوا إرادتهم، هم الذين يبلغ عددهم 10 ملايين على الأكثر، على 350 مليون من المسيحيين و 300 مليون من المسلمين؟ لا شك أن اليهود يمتلكون رأس المال والذكاء، لكن مهما عظمت قوة المال في هذا العالم، لا يمكن شراء الملايين دفعة واحدة، ولتحقيق هدف كهذا الذي تسعى الصهيونية إلى تحقيقه، لا بد من ضربات أخرى أشد وطأة، مثل ضربات المدافع والبوارج الحربية. ومن هي القوة الدولية التي يمكنها وضع هذه الأمور في تصرف الدكتور هرتزل؟ [...]
لذا، من الجنون المحض أن يتصور الدكتور هرتزل، الذي أقدره كرجل وكاتب موهوب، ووطني يهودي أصيل، وأصدقاؤه، أنهم سينجحون يومًا ما في الاستيلاء على فلسطين، حتى لو أمكنهم الحصول على موافقة جلالة السلطان. لكنني ما كنت لأصدق أن لي الحق في التدخل لو لم أتوقع خطراً جسيماً من هذه الحركة على اليهود في تركيا، وخصوصاً في فلسطين.
من المؤكد أن الأتراك والعرب عمومًا يكنون مشاعر طيبة تجاه إخوانكم في الدين، ومع ذلك، يوجد بينهم أيضاً متعصبون؛ وهم أيضاً، كسائر الأمم، حتى أكثرها تحضراً، ليسوا بمنأى عن مشاعر الكراهية العنصرية. [...]
هناك ما يدعو للخوف من حركة شعبية ضد إخوانكم في الدين، الذين ظلوا تعساء لقرون طويلة، والتي ستكون كارثية عليهم، ولن تتمكن الحكومة، ذات أفضل النفوذ في العالم، من إخمادها بسهولة. هذا الاحتمال المحتمل جداً هو ما يدفعني للكتابة إليكم.
لذا، من الضروري لطمأنينة اليهود في تركيا أن تتوقف الحركة الصهيونية، بالمعنى الجغرافي للكلمة. دعونا نجد مكاناً ما للأمة اليهودية التعيسة؛ لا شيء يمكن أن يكون أكثر عدلاً وإنصافاً. يا إلهي، الأرض واسعة بما يكفي؛ لا تزال هناك بلدان غير مأهولة يمكننا أن نسكن فيها ملايين اليهود الفقراء، الذين قد ينعمون بالسعادة هناك ويشكلون أمة يوماً ما. لعلّ هذا هو الحل الأمثل والأكثر عقلانية للمسألة اليهودية. ولكن، باسم الله، دعوا فلسطين تنعم بالهدوء.
في التاسع عشر من الشهر نفسه، أرسل تيودور هرتزل رسالة جوابية إلى يوسف ضياء الخالدي، قال فيها إنه لا خوف من الهجرة اليهودية، واعتبر أن "اليهود أصدقاء تركيا"، وأن الصهيونية لا تحمل مشاعر العداء للحكومة العثمانية بل ترغب في إيجاد موارد جديدة لها عن طريق الهجرة، وكتب:
إن الفكرة الصهيونية، التي أنا خادمها المتواضع، لا تحمل أي ميول عدائية تجاه الحكومة العثمانية؛ بل على العكس، تُعنى هذه الحركة بفتح آفاق جديدة للإمبراطورية العثمانية. فبالسماح بهجرة عدد معين من اليهود الذين يجلبون ذكاءهم وأموالهم ومواردهم الريادية إلى البلاد، لا شك أن رفاهية البلاد بأكملها ستكون النتيجة المرجوة، ومن الضروري فهم هذا الأمر وتوضيحه للجميع. [...]
إن السلام العالمي الذي يتطلع إليه جميع الصالحين بشغف سيتجسد في اتحاد أخوي في الأماكن المقدسة.
يا صاحب السعادة، ترى صعوبة أخرى في وجود السكان غير اليهود في فلسطين. ولكن من يفكر في طردهم؟ إن رفاههم وثروتهم الفردية هي ما سنزيده بجلب ثرواتنا. [...] هذا ما يجب أن يدركه السكان الأصليون: أنهم سيكسبون إخوة ممتازين، كما سيكسب السلطان رعية مخلصة وصالحة تجعل هذه الولاية تزدهر، هذه الولاية التي هي وطنهم التاريخي.
بيد أن هذه الرسالة الجوابية لم يكن لها أي أثر في موقف يوسف ضياء الخالدي، الذي ظل على معارضته للهجرة الصهيونية إلى فلسطين.
توفي يوسف ضياء الدين الخالدي سنة 1906 في إسطنبول ودُفن فيها. وكان خاضعاً لرقابة الباب العالي حتى وفاته، لأنه ظل يدعو إلى الإصلاح والحكم الدستوري اللذين آمن بهما كل حياته.
يوسف ضياء الخالدي من رجالات النهضة العربية؛ ترأس بلدية القدس لسنوات عديدة، وكان أول ممثل عن متصرفية القدس في مجلس المبعوثان العثماني؛ انفتح على الحضارة الأوروبية، وتنبّه مبكراً إلى أخطار الحركة الصهيونية، ويعتبر من أبرز الشخصيات الفلسطينية في العهد العثماني.
المصادر:
"الجزيرة نت. ""يوسف ضياء الخالدي.. مؤسس بلدية القدس"، 11 حزيران/يونيو 2024.
https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2024/6/11/يوسف-ضياء-الخالدي-مؤسس-بلدية
"المعرفة". "يوسف ضياء الدين باشا الخالدي".
https://www.marefa.org/يوسف_ضياء_الدين_باشا_الخالدي
مناع، عادل، "أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني (1800-1918)." بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، طبعة ثانية، 1995.
"الموسوعة الفلسطينية"، القسم العام، المجلد الرابع. دمشق: إصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية، 1984.
"الهدية الحميدية"
https://kurdipedia.org/default.aspx?q=20230824183132517030&lng=28
"يوسف ضياء الخالدي. بصمة مقدسية بالدولة العثمانية (بروفايل)"، 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2018.
https://www.aa.com.tr/ar/ يوسف-ضياء-الخالدي-بصمة-مقدسية-بالدولة-العثمانية-بروفايل/1304843
Abdul Hadi, Mahdi, ed. Palestinian Personalities: A Biographic Dictionary. 2nd ed., rev. and updated. Jerusalem: Passia Publication, 2006.
Khalidi, Rashid. Palestinian Identity: The Construction of a Modern National Consciousness. 2nd ed. New York: Columbia University Press, 2010.
Khalidi, Walid, ed. From Haven to Conquest: Readings in Zionism and the Palestine Problem Until 1948. 2nd ed. Washington, DC: Institute for Palestine Studies, 1987.
Morris, Benny. Righteous Victims: A History of the Zionist-Arab Conflict, 1881–1999. New York: Vintage Books, 1999.
Schölch, Alexander. “An Ottoman Bismarck from Jerusalem: Yusuf Diya’ al-Khalidi (1842–1906).” Jerusalem Quarterly, no. 24 (2005): 65–76.
“Theordor Herzl & Yusuf Khalidi: Correspondance (1899).”