على مدى أكثر من قرن، تأثرت موسيقى فلسطين بتجربة المنفى وانطبعت بها. فقد نشأت في إثر النزوح الجماعي الذي تسببت به النكبة سنة 1948 والمواجهات والحروب اللاحقة مع الاستعمار الصهيوني، في مواقع الشتات الفلسطيني تيارات موسيقية مميزة، وأشكال من التعبير الموسيقي تعكس المكونات السياسية والثقافية للهوية الفلسطينية. وفي حين أن العديد من الأشكال والأنواع والتقاليد والرسائل المتنوعة يتم توارثه من خلال الموسيقى التي عرفتها فلسطين المحتلة، فإن الفنانين المنفيين يواصلون من أرضهم إثراء الموسيقى الفلسطينية بفضل مساهماتهم المتميزة.
الموسيقى الإقليمية قبل سنة 1948
بحلول مطلع القرن العشرين، كانت الموسيقى الفلسطينية مكوناَ أساسياً من مكوّنات الهوية الثقافية للعديد من المجتمعات والطوائف التي عاشت تحت الحكم العثماني. ولأنها وفرت ولفترة طويلة أماكن للتبادل الثقافي الإقليمي والدولي، كانت مدن فلسطين ومن بينها القدس على وجه الخصوص تعج بالأرمن واليونانيين والروس وغيرهم من المجموعات القومية.
كانت التقاليد الريفية الفلسطينية في الغناء والموسيقى هي السائدة، لكن التقنيات الجديدة والتواصل والتبادلات على المستويين العربي والإقليمي مكَّنت الموسيقيين الموجودين في المراكز الحضرية من استقطاب جمهور واسع ذواق للموسيقى المتأثرة بالألوان الموسيقية التي نشأت في القاهرة
وغيرها من العواصم الكبرى. عندما جاء محمد عبد الوهاب
وأم كلثوم
وأسمهان
وغيرهم من نجوم المنطقة لتقديم عروضهم في فلسطين في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته، كان الفنانون الفلسطينيون يسجلون أعمالهم الموسيقية ويصدرونها بعلامات تجارية إقليمية، ويسافرون إلى الدول المجاورة لتسجيلها. ومن بين هؤلاء رجب الأكحل
ونمر ناصر
وثريا قدّورة
الذين ظهرت موسيقاهم في فهارس وكتيبات شركة بيضافون
اللبنانية في منتصف عشرينيات القرن العشرين، ونوح إبراهيم
الذي سجَّل مع شركة
النكبة: الموسيقى في الشتات
في السنوات التي أعقبت التهجير الجماعي، استمرت الموسيقى والأغاني التقليدية المرتبطة بالأعراس والمناسبات الاجتماعية الأُخرى في المخيمات والمدن التي لجأ إليها الفلسطينيون في المنفى، في حين انتقلت أناشيد المقاومة وتلك المعبرة عن الهوية الوطنية إلى الأجيال الجديدة. وخلال النكبة، خبا صوت العديد من الموسيقيين الفلسطينيين البارزين، بينما اكتسب آخرون شهرة في المدن الرئيسية في المنطقة.
قبل النكبة، كان الفنان روحي الخمّاش ، المولود في نابلس ، يؤدي ويلحّن ويقود فرقاً كورالية وموسيقية في محطة الإذاعة الفلسطينية ، ويجول في المنطقة حيث اشتُهر كعازف بارع على العود. ثم استقر في العراق وصار من الشخصيات المرموقة في المشهد الموسيقي العراقي. حصل الخمّاش على الجنسية العراقية، ودرّس في المعاهد الموسيقية في بغداد ، وعمل في الإذاعة والتلفزيون العراقيين، وقاد العديد من الفرق الموسيقية بما في ذلك فرقة خماسي الفنون الجميلة التي دمجت العديد من الأساليب الفنية الإقليمية. توفي الخمّاش سنة 1998 خلال فترة العقوبات الغربية على العراق.
ولد سلفادور عرنيطة في القدس سنة 1914 وتدرب على العزف على البيانو والأرغن قبل أن يطور أسلوبه التلحيني باستخدام تأثيرات الموسيقى الكلاسيكية الغربية. وعلى غرار الخمّاش، قام بتأليف أعمال لمحطة الإذاعة الفلسطينية. وعبَّرت أعماله المبكرة عن توجهات سياسية، وخلال فترة ما بعد النكبة في لبنان ، تراوحت مؤلفات عرنيطة من أغاني الأطفال إلى الكانتاتا الدرامية "بطاقة هوية" المستندة إلى قصيدة محمود درويش "سجِّل أنا عربي". كما تأثرت أعماله بالأبحاث التي أجرتها زوجته عالمة الموسيقى الشهيرة يسرى جوهرية عرنيطة في مجال الموسيقى الفولكلورية. وبوصوله إلى لبنان في سنة 1950، لمع اسم المغني حليم الرومي ، الذي تضمنت أعماله في أعقاب النكبة، غناء القصيدة الوطنية "إرادة الحياة" للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي .
انتقل صبري الشريف
إلى بيروت
عبر
بين سنة 1967 وأوائل التسعينيات
شهدت التعبيرات الموسيقية والسياسية عن المنفى الفلسطيني ثورة مع نهوض حركة التحرير الوطني، وخصوصاً بعد هزيمة حرب عام 1967
(النكسة). وجد المغنون والموسيقيون المرتبطون مباشرة بفصائل المقاومة الفلسطينية فرصاً للأداء داخل دول اللجوء، وفي دول الكتلة الاشتراكية التي وفرّت لهم الدعم. واستناداً إلى الترجمات الإنكليزية لقصائد معين بسيسو
ومحمود درويش وغيرهما، أصدرت منظمة التحرير الفلسطينية
في لبنان سنة 1972 ألبوماً بعنوان "نداء فلسطين العاجل" على اسم أغنية كتبتها ولحنتها الفلسطينية المصرية المولد زينب شعث
، قبل أن تقوم بجولة في
سجلت فرقة العاشقين
في سوريا
أشرطة كاسيت لقيت شهرة في مختلف أنحاء المنطقة. وقد أسس الفرقة سنة 1977 المؤلف الموسيقي الفلكلوري والملحن والموزع حسين نازك
وضمت مجموعة من الموسيقيين والراقصين من الذكور والإناث الذين ارتدوا بدلة الفدائي الفلسطيني وغنوا من أجل تحرير فلسطين. ساهمت الفرقة أيضاً في نشر الأناشيد الوطنية التاريخية، مثل أغنية "من سجن عكا
" التي ألفها نوح إبراهيم في ثلاثينيات القرن العشرين، وغنتها على خشبات المسارح وشاشات التلفزيون وساهمت في إعادة تسجيلها عدة مرات وفي انتشارها على نطاق واسع. وألف حسين نازك موسيقى قصيدة "يما مويل الهوى" التراثية بلحن يرتبط اليوم ارتباطاً وثيقاً بالقصيدة. ومن بين الفرق الأُخرى والفنانين الفلسطينيين الآخرين الذين قدموا عروضاً في بلاد الشام
خلال تلك الفترة فرقة
يا توتة الدار صبرك على الزمان ان جار
لا بد ما نعود مهما طول المشوار
وسجل آخرون، ومنهم جورج طوطري
وهو من مواليد الناصرة
والمقدسيان مصطفى الكرد
وجورج قرمز
، ألبومات موسيقية وأدوا أغانيهم وأناشيدهم في أوروبا و
بعد أن شارك جورج قرمز كعازف غيتار في فرقة البراعم
في أوائل السبعينيات، حظي بشهرته كفنان منفرد في
وساهم الموسيقيون في دول اللجوء والمنفى في التعبير الجماعي الفلسطيني خلال الانتفاضة الأولى
(1987-1993). وكما جرى مع فرقتي
ربما تسلبني آخر شبر من ترابي
ربما تطعم للسجن شبابي
ربما تسطو على ميراث جدي
من أثاث وأوان وخواب
ربما تحرق أشعاري وكتبي
ربما تطعم لحمي للكلاب
ربما تبقى على قريتنا كابوس رعب
يا عدو الشمس لكن لن أساوم
وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم
وعززت الانتفاضة الفلسطينية توجه الفلسطينيين في دول اللجوء والشتات للمساهمة في قضية التحرير الوطني على المستوى الدولي من خلال الأغاني والموسيقى.
الموسيقى الفلسطينية في المنفى بعد أوسلو
بدأ العديد من الموسيقيين الفلسطينيين في البحث عن سبل متعددة للتعبير الجمالي منذ تسعينيات القرن العشرين. فقد بادرت المغنية ريم كيلاني
التي وُلدت في
تعاونت كاميليا جبران مع فنانين مثل
من ناحية أُخرى، شكّل عازفو الآلات، التزاماً منهم بإحياء التراث والتقاليد الأصيلة والحفاظ عليها وبفضل الاهتمام العالمي بموسيقى الشرق الأوسط، اتجاهاً رئيسياً في الموسيقى الفلسطينية. قبل النكبة، تطورت ثقافة الطرب الأصيل خلال الفترة العثمانية في المدن العربية ولا سيما في القدس ويافا ومدن أُخرى في فلسطين، قبل انتقال عدد من العازفين البارزين إلى المنفى ومنهم الخماش الذي رحل إلى العراق ويحيى السعودي إلى سوريا ويوسف رضوان إلى الأردن. أمّا أحمد الخطيب ، فقد نشأ في مخيم إربد للاجئين بالأردن في السبعينيات والثمانينيات، وتعلم العزف على يد أحمد عبد القاسم ، وهو لاجئ فلسطيني كان يعيش في بغداد حيث طور في البداية أسلوبه الخاص داخل مدرسة العزف على آلة العود العراقية. وفي حين حال الاحتلال دون تمكنه من العمل بانتظام في فلسطين، صار الخطيب أستاذاً في العزف على العود واكتسب شهرة دولية على رأس فرقة السبيل إلى جانب عازف الإيقاع يوسف حبيش . ومع محاولات الاستعمار الصهيوني الاستيلاء على ثقافة العود كجزء من التراث الموسيقي العربي الفلسطيني، نشط عازفو العود والملحنون الفلسطينيون بشكل خاص خارج وطنهم، وكان من بينهم سيمون شاهين وعيسى بولص وكميليا جبران وعيسى مراد والثلاثي جبران وباسل زايد .
تنوعت التجارب الموسيقية الفلسطينية في المنفى على نحو كبير من ناحية الأسلوب، وتأثرت بموسيقى الراب والموسيقى الإلكترونية والأنماط الغربية الكلاسيكية والبوب والجاز ونشأت أنواع موسيقية خاصة بفلسطين والمنطقة المحيطة بها. ومن بين مغنيي الراب الفلسطينيين الذين ساهموا في المشهد الموسيقي السائد والملتزم
الموسيقى الفلسطينية في العالم بعد الحرب على غزة، 2023-2025
لعب الموسيقيون الفلسطينيون دوراً بارزاً في حشد التأييد للثقافة الفلسطينية في مواجهة الإبادة الجماعية الصهيونية في غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، واعتلوا المسارح الدولية لأداء مقطوعاتهم وسجلوا أناشيدهم وموسيقاهم تضامناً مع المقاومة على الأرض. وباعتبارها منطقة اللجوء الفلسطيني الأكثر كثافة، واصلت غزة تزويد العالم بأناشيدها وموسيقاها في مواجهة المجازر والفظائع الإسرائيلية اليومية. ألفت فرقة صول
الألحان وسجلتها ونظمت جلسات موسيقية بين النازحين قبل مغادرتها غزة في ربيع 2024، بينما حشد عازف العود الشاب سميح المدهون
أيضاً التأييد على منصات التواصل الاجتماعي. وقامت عازفة العود ريم عنبر
، التي عاشت الحروب الإسرائيلية السابقة على غزة، بجولة دولية كعازفة منفردة ومع
ومن بين الموسيقيين الفلسطينيين الآخرين، الذين نشطوا وقدموا عروضاً خلال هذه الفترة، عازفو العود كلاريسا بيطار
ونزار روحانا
وسعيد سلباق
؛ والمغنية ريم كيلاني؛ والمغنية وعازفة القانون كريستين زايد
؛ وعازف البيانو فرج سليمان
؛ وفرق موسيقية من بينها السبعة وأربعين وصول. ومن
اخلع نعلك يا موسى واصعد
إرمِ الفل والياسمين على سهول فلسطين
حتى الآن الوردُ يقاوم حتى الزيتون وحتى التين
سحاب، الياس، وسليم سحاب وفكتور سحاب. "الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1948 وبعدها". بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2021.
شموط، بشار. "الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع: نشأته وتشتته والحفاظ الرقمي عليه". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020.
Boulos, Issa. The Palestinian Music-Making Experience in the West Bank, 1920-1959. PhD thesis, Leiden University, 2020.
Brehony, Louis. Palestinian Music in Exile: Voices of Resistance. Cairo: American University in Cairo Press, 2023.
Hamdi, Tahrir. Imagining Palestine. London: Bloomsbury, 2023.
Shabeeb, Samih. “Poetry of Rebellion: The Life, Verse and Death of Nuh Ibrahim during the 1936-39 Revolt.” Jerusalem Quarterly, no. 25 (Winter 2006): 65–78. https://www.palestine-studies.org/en/node/77691
Tamari, Salim and Issam Nassar. The Storyteller of Jerusalem. Northampton, MA: Olive Branch Press, 2014.