على غير المتوقع، تُعدّ
في القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان اقتصاد السلفادور قائماً على نظام زراعي شبه إقطاعي تهيمن عليه الصادرات الزراعية. وكانت الأراضي الزراعية في يد نخبة صغيرة من مُلاك الأراضي تُعرف باسم
الهجرة الفلسطينية إلى السلفادور
كانت الأغلبية العظمى من الفلسطينيين الذين هاجروا إلى السلفادور في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من المسيحيين القادمين من مدينة بيت لحم وقريتي بيت جالا وبيت ساحور المجاورتين لها. وكان كثير منهم في الأصل حرفيين يبيعون الهدايا التذكارية المصنوعة من خشب الزيتون أو الصدف لزوار الأراضي المقدسة. وقد أتاح التعليم في مدارس بيت لحم التبشيرية والتفاعل مع الزوار الأجانب للعديد منهم اتقان عدة لغات، وهو ما مكّنهم بعد هجرتهم، إلى جانب مهاراتهم الحرفية، من التحوّل إلى بيع الحرف اليدوية الدينية للسكان الكاثوليك في السلفادور.
اعتمد المهاجرون لكسب رزقهم على التجارة؛ بدأوا كباعة متجولين قبل أن يصيروا أصحاب متاجر ومصانع. ويمكن وصف المغتربين الفلسطينيين في السلفادور (وفي أمريكا اللاتينية بصورة عامة) بأنهم شتات أبناء بيت لحم وجوارها. إذ يبلغ عدد الذين تعود أصولهم إلى بيت لحم في السلفادور اليوم نحو أربعة أضعاف عدد سكان بيت لحم في الضفة الغربية المحتلة، ويُقدر عددهم بنحو 100,000 في مقابل 25,000.
بدأت موجة الهجرة في عهد الإمبراطورية العثمانية
، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وهذا ما أدى إلى إطلاق لقب "الترك"، أو "الأتراك"، على المهاجرين الجدد، وهو وصف، عدا عن كونه غير دقيق، مهين ويحمل في طياته مفارقة نظراً إلى أن هؤلاء المهاجرين العرب كانوا يفرون من الاضطهاد العثماني (وبالتالي التركي). استمرت الهجرة في ظل حكم حركة تركيا الفتاة
وبلغت ذروتها سنة 1910، في إثر تطبيق قانون التجنيد العسكري على غير المسلمين، وهو ما دفع العديد من العائلات المسيحية إلى إرسال أبنائها المطلوبين للتجنيد إلى
لم يكن معظم هؤلاء المهاجرين الأوائل ينوون الاستقرار في السلفادور، فقد اشتروا تذاكر سفر إلى
قبل
في السلفادور، اكتسب الوافدون الجدد سمعة (سلبية في الغالب) لبراعتهم في التجارة، الأمر الذي أثار موجة من الكراهية تجاههم كأجانب ومطالبات من مجتمع الأعمال الكريولي بتقييد هجرتهم. في سنة 1921، صنَّفت السلفادور العرب والصينيين على أنهم من الأعراق "الضارة". وعمّق
في سنة 1933، أصدر الديكتاتور
أدت التطورات في فلسطين إلى فرض مزيد من القيود على حرية التنقل، حتى قبل قيام دولة إسرائيل. ففي ظل الحكم العثماني، كانت الهجرة في الاتجاهين بين فلسطين والأمريكتين أمراً شائعاً. أمّا تحت الانتداب البريطاني، فقد أقرّت السلطات الاستعمارية جنسية فلسطينية رسمية في سنة 1925، وفرضت قيوداً جديدة على منح التأشيرات للمغتربين. لم يتمكن كثير من الفلسطينيين المقيمين في الأمريكتين من الحصول على الوثائق اللازمة لإثبات جنسيتهم أو إقامتهم القانونية وهو ما جعلهم عديمي الجنسية. ثم في سنة 1948، أنهى قيام إسرائيل الجنسية الفلسطينية القانونية، الأمر الذي جعل الهجرة الفلسطينية ذات اتجاه واحد. ولم يعد ممكناً لكثير من المهاجرين أن يحققوا حلمهم بالعمل فترة محددة لتوفير المال في المهجر ثم العودة للتقاعد في فلسطين. وقد دفع فقدان خيار العودة، إلى جانب التمييز ضد العرب في الدول المضيفة، الفلسطينيين نحو الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة. فتزوجوا، مع الوقت، من خارج الجالية، وتحدثوا الإسبانية وحدها، وحرَّفوا أسماءهم لتتلاءم مع النطق الإسباني.
وقد استقرت عائلات بارزة في العاصمة
وقد حظيت شركات ناشئة أولى بدعم جمعيات رجال الأعمال الفلسطينيين، وإمكان الحصول على قروض بفائدة ميسَّرة من الجالية. ولم ينافس الفلسطينيون الأوليغارشية الراسخة التي كانت تهيمن على قطاع الأعمال الزراعية؛ إذ لم تكن لديهم لا الإمكانات ولا الرغبة في شراء مساحات شاسعة من الأراضي لزراعتها. ولذلك، دخلوا قطاعات اقتصادية أًخرى مثل التجارة بالتجزئة والخدمات المصرفية، وهي قطاعات تركتها العائلات الأربع عشرة المهيمنة متاحة أمام الوافدين الجدد.
المشاركة في الحياة السياسية
يُعرف المجتمع الفلسطيني في السلفادور بميوله المحافظة سياسياً. وهو ما يعكس استمرار تركُّز أفراده بصورة شبه حصرية في قطاع الأعمال. وعلى خلاف التجربة الفلسطينية في تشيلي، حيث وظف رجال الأعمال الفلسطينيون نجاحهم التجاري للولوج إلى مجالات مهنية أُخرى كالقانون والطب والإعلام والأوساط الأكاديمية، فإن محدودية النظام التعليمي في السلفادور جعلت المسار المهني المفضل للعائلات الفلسطينية هو الحفاظ على الأعمال العائلية وتوسيعها.
ومع ذلك، لم تكن هذه الميول اليمينية سائدة على نحو مطلق. فمن بين السلفادوريين الفلسطينيين البارزين المنتمين إلى اليسار، شفيق حنضل
، القائد العسكري لـ
دامت الحرب الأهلية في السلفادور أكثر من عشر سنوات، قدمت الولايات المتحدة خلالها، وفي ظل الحرب الباردة
على الصعيد العالمي، دعماً واسعاً للحملة التي قادتها الحكومة على المقاتلين اليساريين بقيادة حنضل. وضمن هذا السياق، تفاعلت أوساط قطاع الأعمال بفتور مع النزعة القومية الفلسطينية بسبب الربط الذي أقيم بين هذه الأخيرة من جهة، وبين الحركات اليسارية المحلية، مثل جبهة فارابوندو مارتي، وحكومات غير موالية للولايات المتحدة مثل حكومتي
وقد وصل إلى سدة الرئاسة شخصيتان يمينيتان، من أصول فلسطينية، هما طوني سقّا ونجيب بوكيلة ، كما ترأس خافيير سمعان أكبر جمعية لرجال الأعمال في السلفادور. ومن الجدير بالذكر أن منافس طوني سقّا خلال الحملة الرئاسية سنة 2004، كان فلسطينياً آخر، هو شفيق حنضل.
أمّا الرئيس نجيب بوكيلة الذي انتُخب سنة 2019، فيمثل الجالية الفلسطينية من بعض الجوانب، ويتعارض معها من جوانب أًخرى. فجداه وهما مسيحيان فلسطينيان من بيت لحم والقدس هاجرا في أوائل القرن العشرين حين كانت فلسطين خاضعة للحكم العثماني. وقد خاض نجيب العمل السياسي بعد مسيرة مهنية في مجال الأعمال ورثها عن والده الراحل أرماندو بوكيلة قطّان ، الذي كان رجل أعمال ناجحاً درس الكيمياء الصناعية، ثم أسّس شركات في مجالات صناعة الأدوية والمنسوجات والإعلام.
برز أرماندو بوكيلة قطّان لاهتمامه بالدين والسياسة. فقد وُلد لأبوين مسيحيين لكنه اعتنق الإسلام. وكان من المسلمين القلائل في الجالية الفلسطينية وفي السلفادور عموماً. بنى أربعة مساجد بدءاً من سنة 1992، أي في نهاية الحرب الأهلية. وتولى إمامة الجماعة الإسلامية في السلفادور التي أسسها. وعلى خلاف الميول السياسية اليمينية السائدة بين أبناء الجالية، كان أرماندو يميل إلى اليسار من أبرز المتبرعين لجبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني التي تحولت بعد الحرب الأهلية إلى حزب سياسي كان ابنه نجيب منتمياً إليه في بداياته السياسية.
يقول نجيب بوكيلة إنه لم يشعر يوماً بأن أصوله الفلسطينية شكلت عائقاً في مسيرته السياسية. وقد صرح في إحدى المقابلات "لا يزعجني أن يصفني البعض بالتركي، مع أنني أعلم أن بعضهم ما زال يستخدم هذه الكلمة بنبرة مهينة." وقد حاول خصومه استغلال هذا الأمر في حملاتهم الانتخابية، من دون أن ينجحوا في ذلك. وانتشرت شائعات تقول إنه "مسلم في السر" بعد نشر صور له وهو يصلي في مسجد بمدينة
بلغت حملة التشهير التي شنّها خصمه اليميني ضدّه، بزعم الكشف عن "إسلامه في السر"، حداً من المبالغة أضفى عليها طابعاً هزلياً، إذ تضمّنت صورة مُركبة لبوكيلة وهو يرتدي ما وصفته الدعاية الانتخابية بأنه "زي إسلامي"، ليتضح لاحقاً أن الصورة التُقطت له في حفلة تنكرية، وهو يرتدي زيّ فارس جيدي من سلسلة أفلام "حرب النجوم".
تعكس المسيرة السياسية لبوكيلة التباين في مواقف أبناء الشتات الفلسطيني من القضية القومية الفلسطينية. فإلى جانب النأي بنفسه عن معتقدات والده وميوله السياسية، زار بوكيلة القدس بصفته رئيس بلدية سان سلفادور لحضور مؤتمر العمداء الدولي
. واعتبرت الصحافة الفلسطينية تلبيته الدعوة إلى المؤتمر محاولة لنزع الشرعية عن
وبعد انتخابه رئيساً، شدد بوكيلة مواقفه المؤيدة لإسرائيل؛ وأعرب على منصة إكس عن صدمته في إثر هجوم "
أثبت كل من بوكيلة وسقّا وحنضل وسمعان وغيرهم أن الهوية الفلسطينية لا تشكل عائقاً أمام الوصول إلى أعلى المراتب السياسية في بلد كان ذات يوم خاضعاً لسيطرة أوليغارشية شديدة الانغلاق. غير أن هذا النجاح الذي حققه الفلسطينيون كأفراد لم يُترجم إلى حضور أو تأثير ملموس للقضية الفلسطينية في المجال السياسي. فعلى الرغم مما حققته الجالية الفلسطينية في السلفادور من نجاح اقتصادي وسياسي لافت، فإن هذا النجاح بقي معزولاً تماماً عن مسائل القومية أو السياسات الفلسطينية أو العلاقات الخارجية. وعلى خلاف تشيلي، حيث يحظى دعم إقامة الدولة الفلسطينية بإجماع حزبي واسع يتجاوز نطاق الجالية الفلسطينية نفسها، ترتبط السلفادور بعلاقة خاصة ووثيقة مع إسرائيل. وقد تعززت هذه العلاقة خلال الحرب الأهلية التي شهدها البلد بين سنتي 1980 و1992، حين كانت إسرائيل تزود حكومة السلفادور بنحو 83% من وارداتها من السلاح.
وكانت السلفادور الدولة الوحيدة (إلى جانب
التعبيرات الثقافية والتأييد الشعبي
نتيجة التمييز الذي طال المهاجرين من أصول "تركية" كما كانوا يُسمون، عمدت الأجيال الأولى من المهاجرين إلى إخفاء هويتها الفلسطينية والعربية ولم تبدأ هذه الهوية تظهر إلى العلن إلاّ في السنوات الأخيرة، وغالباً من خلال الثقافة والمطبخ. وتنتشر في العاصمة عدة مطاعم تقدم الكباب والبقلاوة، وتُسوّق هذه الأطباق عادةً تحت مسمى "مأكولات عربية". كما تتولى
وقد تأسس
توجد في العاصمة سان سلفادور بعض المعالم العامة التي تعبِّر عن الهوية الوطنية الفلسطينية، من بينها ساحتان؛ الأولى هي
ومؤخراً، تأسست لجنة للتضامن مع فلسطين في السلفادور برئاسة سهير بركة بندك ، وهي من بين قلة من المغتربين الفلسطينيين البارزين الذين هاجروا بعد سنة 1948. جاءت سهير بركه بندك من بيت لحم بعد زواج مدبَّر من أحد أبناء عائلة السعدي السلفادورية الفلسطينية المعروفة في مدينة سونسوناتي.
وعقب اندلاع الحرب في غزة سنة 2023 نُظمت تظاهرات شعبية محدودة تضامناً مع أهالي القطاع امتزجت فيها التعبيرات السياسية والثقافية والدينية؛ ففي إحدى هذه التظاهرات التي نُظمت في يوم الجمعة العظيمة سنة 2024، سار المتظاهرون في الوسط التاريخي للعاصمة تحت لافتة كُتب عليها: "يسوع وُلد في فلسطين"، وعرضوا سجادة كبيرة تُصوِّر يسوع على الصليب.
وأتاح افتتاح السفارة الفلسطينية في السلفادور سنة 2018 دعماً مؤسساتياً محدوداً للنشاط السياسي. ومع ذلك، ما زالت معظم تعبيرات الهوية الفلسطينية في السلفادور غير مسيَّسة وتقتصر إلى حد كبير على المجال الثقافي، وهو ما أشارت إليه رئيسة بلدية بيت لحم فيرا بابون خلال زيارتها للسلفادور سنة 2017، إذ انتقدت الجالية الفلسطينية في مقابلة مع موقع "إل فارو" الإخباري، قائلةً: "بإمكان الجالية الفلسطينية أن تقدم لفلسطين أكثر بكثير مما تفعل اليوم."