بحجة حماية المسيحيين قاطني الأراضي المقدسة، وفي الحقيقة من أجل إرساء نفوذها في الإمبراطورية العثمانية
المتداعية، تتسابق الدول الأوربية إلى افتتاح قنصليات في القدس
: بريطانيا العظمى
سنة 1838؛ بروسيا
و
في أواخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث من القرن العشرين، حاز إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين دعماً أميركياً واسعاً شمل السلطة التنفيذية والكونغرس والنخبة السياسية، وبدرجة أقل، دعم الجالية اليهودية. وجاء شبه الإجماع هذا نتيجة طبيعية لاتجاهات دينية ومجتمعية وسياسية تراكمت بالتدريج بعد استقلال الولايات المتحدة في سنة 1776. تحدد هذه المقالة العوامل التي أثرت في موقف الولايات المتحدة من فلسطين حتى سنة 1914، وتصف سياستها منذ الحرب العالمية الأولى حتى عشية انتصارها في الحرب العالمية الثانية، أي قبل أن تؤدي واشنطن دوراً قيادياً في تشكيل السياسة الدولية بشأن فلسطين.
1776 - 1819: فكرة إعادة تسكين وتمركز اليهود والروح الاستعمارية
خلال سنوات الاستقلال الأميركي، هيمنت البروتستانتية على التركيبة الدينية للمجتمع الأميركي، بينما كان الكاثوليك يشكلون أقلية صغيرة. وقد توزع البروتستانتيون الأميركيون على نحو اثنتي عشرة طائفة (مثال المجمعيين المنحدرين من البيوريتانيين والمشيخيين والأسقفيين والأنجليكان). وبالنسبة إلى معظم أفراد هذه الطوائف، احتل العهدان القديم والجديد مكانة جوهرية في نظام معتقداتهم وحياتهم الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، سُميت عشرات البلدات بأسماء توراتية (مثل الناصرة وصهيون والخليل ولبنان وبيت لحم) قبل الثورة، واستمر عددها في الازدياد إلى عدة مئات بعد الاستقلال مع توسع الاتحاد غرباً. كان الخطاب الألفيّ، وهو الاعتقاد بأن المسيح سيعود ليقيم حكماً مدته ألف عام، قد تغلغل في المجتمع الأميركي الاستيطانيّ، إلى جانب تساؤلات عن مكانة اليهود في الألفية وخلاصهم وإعادة تسكينهم وتمركزهم في الأراضي المقدسة (Restoration). ثم أجج إنجاز الاستقلال الأميركي النقاش: هل تكون الأمة الأميركية الجديدة التي حققت هذا الإنجاز هي نفسها صهيون الجديدة، أرض الميعاد، بديلاً من "إسرائيل التوراتية"؟ أو، بعد أن وصلت هذه الأمة إلى مثل هذه المكانة المستقلة والمزدهرة التي "باركها الله"، ألا ينبغي لها أن تساهم في إعادة تسكين اليهود كواجب، بدلاً من انتظار المشيئة الربانية لتحقيقها، كما جاء الوعد في الكتاب المقدس. وهل يجب أن يكون العمل على إعادة تسكينهم وتمركزهم قبل اعتناقهم الإيمان المسيحي أو بعده؟
كان لدى لاهوتيي الألفية إجابات متنوعة أو متباينة عن هذه التساؤلات. لكن بعيداً عن اختلافاتهم، وخصوصاً بشأن توقيت اهتداء اليهود إلى الإيمان المسيحي، أصبحت فكرة إعادة التسكين والتمركز (Restorationism) مألوفة إلى حد ما في الأوساط العامة. وقد تم التعبير عنها في سنة 1783 خلال عظة عيد الشكر بمناسبة النصر، من جورج دوفيلد، قسيس الكونغرس القاري؛ وفي سنة 1816 من إلياس بودينو، الذي كان لاهوتياً ورجل دولة أيضاً إذ ترأس الكونغرس القاري في 1782-1783؛ وفي سنة 1819 من جون آدامز، الرئيس الأميركي السابق (1797-1801). في الوقت نفسه، أدت الدينامية التي ولدها تحقيق الاستقلال (والتي عززتها حرب سنة 1812 مع بريطانيا) إلى مبادرات تبشيرية استهدفت مناطق جغرافية بعيدة وكذلك داخل الحدود (تجاه السكان الأصليين والأميركيين السود واليهود). وقاد بعض هذه المبادرات مجلس المفوضين الأميركيين للإرساليات الأجنبية (ABCFM)، وهو تجمع ضم أعضاء من الطوائف المشيخية والمجمعية والإصلاحية الهولندية، تأسس سنة 1810؛ وجمعية استعمار الملونين الأحرار في أميركا (سرعان ما أعيد تسميتها بجمعية الاستعمار الأميركية [ACS]، التي تأسست سنة 1816 لدعم إعادة الأميركيين السود الأحرار إلى إفريقيا)؛ والجمعية الأميركية لتحسين حالة اليهود، التي تأسست سنة 1820 على غرار الجمعية اللندنية لنشر المسيحية بين اليهود.
1890-1819: المبشرون الأميركيون
أطلقت الروح الكولونيالية الأميركية، التي اقترنت بعلم الأخرويات الألفي، والتي سهّلها لاحقاً إدخال التلغراف والبواخر والسكك الحديدية، عملية تحول في مفهوم القدس من "أورشليم السماوية" إلى "القدس الأرضية". وهكذا، في سنة 1819، أبحر مبشرون تحت رعاية مجلس المفوضين الأميركيين للإرساليات الأجنبية إلى فلسطين وغيرها من المقاطعات العثمانية بهدف تشجيع المسلمين في الإمبراطورية، وكذلك المسيحيين، وخصوصاً اليهود في فلسطين، على اعتناق المسيحية البروتستانتية. لكن سرعان ما ثبت أن مساعيهم لتحويل اليهود أو المسلمين في فلسطين إلى المسيحية البروتستانتية لم تكن واقعية على الإطلاق، فحوّلوا جهودهم نحو مسيحيي سورية، ولا سيما نحو أولئك الذين يعيشون فيما أصبح يُعرف بلبنان، وتركوا الدور الأول في فلسطين إلى المبشرين البريطانيين. ومع ذلك، تواصل تنظيم زيارات المبشرين الأميركيين إلى فلسطين طوال القرن التاسع عشر، وكذلك البعثات الاستكشافية في إطار "علم الآثار التوراتية" الذي دشنه عالم توراتي أميركي هو إدوارد روبنسون في سنة 1837، الذي أراد أن يثبت بالأدلة الأثرية "الحقيقة التاريخية" للكتاب المقدس، ولم يكن لديه أي اهتمام على الإطلاق بسكان فلسطين الأحياء إلاّ بقدر ما يمكن تصويرهم على أنهم من بقايا الحقبة التوراتية. بيد أن البعثات الدينية أو الاستكشافية الأميركية إلى فلسطين ظلت، خلال معظم القرن التاسع عشر، تحتل المرتبة الثانية بعد البعثات البريطانية.
فدور واشنطن كان محدوداً جداً في صنع السياسات والتدخل الاستراتيجي في الشؤون العثمانية، مقارنة بدور بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا. ومع ذلك، وقعت الولايات المتحدة في سنة 1830 معاهدة التجارة والملاحة مع الباب العالي، استفادت بموجبها من الحقوق والامتيازات نفسها التي تتمتع بها الدول الأوروبية الأُخرى. كما عيّنت وكلاء قنصليين (غالباً من الرعايا العثمانيين أو الأوروبيين) في الرملة بالقرب من يافا سنة 1832 وفي عكا سنة 1833، وافتتحت قنصلية في القدس سنة 1856، بعد محاولة فاشلة سنة 1844. وكما كانت الحال بالنسبة إلى القنصليات الأوروبية الأُخرى، كانت مهمات القنصل أو الوكلاء القنصليين تتمثل في تقديم الخدمات للمواطنين الأميركيين، الذين قد يكونون يهوداً أو مستوطنين مسيحيين (في يافا وأرطاس ، والقدس حيث أنشأ مسيحيون أمريكيون "الكولونيالية الأميركية" بعد استقرارهم في البلدة القديمة) أو مبشرين أو زوار. وبفضل نظام الامتيازات الأجنبية، تمتع عدد من اليهود غير الأميركيين بوضع "المحميين،" وارتفع عدد طالبي الحماية القنصلية الأميركية من 150 شخصاً في سنة 1882 إلى 800 شخص في سنة 1899.
1913-1891: وطن لليهود في فلسطين، لكن من دون دعم اليهود الأميركيين
في نهاية القرن التاسع عشر، ازداد الاهتمام الديني والتاريخي بفلسطين بصفتها أرضاً مقدسة، سواء في الولايات المتحدة نفسها أو في فلسطين، وترافق ذلك مع تزايد الاهتمام بالإحياء اليهودي في فلسطين. وبرزت أول محاولة جادة لتجسيد هذا الاهتمام على الصعيد السياسي في أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر مع ويليام بلاكستون (1841-1935)، وهو مشيخي إنجيلي، سافر في سنة 1888 إلى الأرض المقدسة وزار مواقع الحج المسيحية والمستعمرات اليهودية المنشأة حديثاً. ولدى عودته إلى الولايات المتحدة، قرر أن يدعو بنشاط إلى عودة اليهود إلى فلسطين وإعادة تأسيس دولة يهودية كشرط مسبق للمجيء الثاني ليسوع المسيح. في آذار/ مارس 1891، قدم بلاكستون للرئيس بنجامين هاريسون مذكرة موقعة من 413 شخصية، بمن فيهم قادة كنائس ورجال أعمال ورؤساء مؤسسات تعليمية وأصحاب صحف ورؤساء تحرير وسياسيون وحكام ولايات ورئيس المحكمة العليا وأعضاء كونغرس. بعد تأكيدها أن روسيا "مصممة على ضرورة رحيلهم [اليهود الروس]،" عن أراضيها، تساءلت مذكرة بلاكستون:
لكن إلى أين سيذهب 2.000.000 من هؤلاء الفقراء؟ إن أوروبا مزدحمة ولا تتسع لمزيد من الفلاحين. هل سيأتون إلى أميركا؟ سيكون ذلك مكلفاً جداً، وسيتطلب سنوات.
لماذا لا نعيد إليهم فلسطين مرة أُخرى؟ فوفقاً لتوزيع الله للأمم، إنها وطنهم، وهي ملك غير قابل للتصرف، وقد طُردوا منها بالقوة.
حثت المذكرة الرئيس هاريسون على عقد مؤتمر دولي لهذا الغرض بمشاركة روسيا والإمبراطورية العثمانية و15 دولة أوروبية. ولاحقاً، اعتُبر مقترح بلاكستون بشأن فلسطين بمثابة صيغة مبكرة للبرنامج الصهيوني كما شرحه هرتزل في سنة 1896 واعتمده المؤتمر الصهيوني الأول بعد عام واحد. وعلى الرغم من أن المذكرة لم تحفز أي نشاط دبلوماسي أميركي على المستوى الدولي، فإنها أثارت دعاية كبيرة ونقاشات واسعة داخل الولايات المتحدة، وذلك ليس من وجهة نظر توراتية، إنما من وجهة نظر سياسية. كما أن عاملاً جديداً كلياً برز هذه المرة، وهو الوجود المادي لجاليات يهودية في الولايات المتحدة وإمكان نموها بسرعة من حيث العدد.
ففي العقد الأول من القرن التاسع عشر، كان عدد اليهود في الولايات المتحدة لا يتجاوز 3000 نسمة. وفي سنة 1880، بلغ عددهم 230.000 ويرجع ذلك أساساً إلى الهجرة الألمانية. أمّا في سنة 1914، فقد وصل عددهم إلى 2.930.000، وذلك بسبب الهجرة من أوروبا الشرقية. فبين سنتي 1881 و1914، هاجر نحو 2 مليون يهودي إلى الولايات المتحدة. في المقابل، اختار نحو 65.000 فقط الهجرة إلى فلسطين بين سنتي 1882 و1914، وقد غادر أكثر من نصفهم إلى الولايات المتحدة بين سنتي 1905 و1909.
عبّر الاستقبال الإيجابي، في أوساط النخبة الأميركية، لمذكرة بلاكستون، أكثر من أي وقت مضى، عن رؤية استعمارية لفلسطين وفي الوقت نفسه عن اهتمام بتقييد الهجرة اليهودية إلى الولايات المتحدة، وذلك تحت ستار الحرص السخي على ضمان حق يهود العالم في الاستيطان في الأرض المقدسة. من الجدير مقارنة هذا الاستقبال الإيجابي بالموقف الذي تبناه معظم اليهود الأميركيين، وخصوصاً اليهود الإصلاحيين من أصل ألماني، الذين عارضوا مقترح بلاكستون لكونه لا يتوافق مع رغبتهم في الاندماج في المجتمع الأميركي (ظهرت الحركة اليهودية الإصلاحية في ألمانيا خلال عصر التنوير وروجت لفكرة تحرر اليهود ومشاركتهم الكاملة في المجتمعات المحلية).
1924-1914: الولايات المتحدة وتصريح بلفور والنفط
دشنت مجريات الحرب العالمية الأولى ونتائجها حقبة جديدة لفلسطين والصهيونية والمشرق العربي بأسره. فبعد اندلاع الحرب في آب/ أغسطس 1914، ومع انخراط الإمبراطورية العثمانية في الحرب إلى جانب ألمانيا ضد الحلفاء، ضغط القادة الصهيونيون البريطانيون على حكومتهم لتبني البرنامج الصهيوني ودعمه. وفي الولايات المتحدة، بدأت شخصيات صهيونية بقيادة لويس برانديز حملة عامة تدعو فيها إلى تطبيق البرنامج. وكان برانديز مقرباً من الرئيس وودرو ويلسون الذي عيّنه في سنة 1916 قاضياً في المحكمة العليا. وعلى الرغم من أن ويلسون كان مشيخياً متعاطفاً مع القضية الصهيونية، فإنه لم يعبّر عن دعمه السياسي لها، بسبب رغبته في أن تظل الولايات المتحدة محايدة تجاه الحرب في أوروبا وإزاء الإمبراطورية العثمانية.
انخرطت واشنطن في الحرب ضد ألمانيا (لكن ليس ضد العثمانيين) في 6 نيسان/ أبريل 1917. وبعد شهر واحد، وفي إثر جهود حثيثة بذلها برانديز، أعرب له ويلسون بصورة شخصية عن دعمه "لوطن مضمون علناً ومؤمَّن قانونياً للشعب اليهودي." ثم بعد إلحاح بريطاني، وافق سراً في 6 تشرين الأول/ أكتوبر على مسودة تصريح بلفور الذي أعلنه البريطانيون رسمياً بعد أقل من شهر (في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر). زلم يعبّر ويلسون عن تأييده العلني للتصريح إلاّ في آب/ أغسطس 1918، بعد أن تمكنت القوات البريطانية من طرد العثمانيين من معظم فلسطين.
وكان ويلسون قد ألقى خطاباً رئيسياً أمام الكونغرس في 8 كانون الثاني/ يناير 1918، عرض فيه نقاطه الأربع عشرة للسلام العالمي بعد الحرب، مؤكداً [بما معناه] حق الشعوب في تقرير مصيرها، ومصرحاً بأنه "يجب أن يُكفل للقوميات الأُخرى التي تخضع الآن للحكم التركي، أمنُ حياة لا شك فيه وفرصة في التطور الذاتي لا مضايقة فيها على الإطلاق." من الصعب مقاربة كيف يمكن التوفيق بين نقاط ويلسون (الذي كان، بالمناسبة، معروفاً بعنصريته تجاه الأميركيين من أصل أفريقي) ودعمه للوطن القومي اليهودي في فلسطين، إلاّ إذا كان سكانها الأصليون، الذين تم تعريفهم بصيغة النفي ("غير اليهود")، لا يجوز لهم أصلاً التمتع بالحقوق القومية، بل يسمح لهم بالتمتع فقط "بالحقوق المدنية والدينية" كما ورد أصلاً في نص تصريح بلفور.
شارك ويلسون في مؤتمر باريس للسلام الذي افتتح في كانون الثاني/ يناير 1919، وعلى الرغم من أنه أرسل لجنة تحقيق إلى المشرق العربي للتثبت من تطلعات شعوبه (لجنة كينغ – كرين التي اقتصرت عضويتها على مَن عيّنهم ويلسون من الأميركيين، بعد أن أحجم البريطانيون والفرنسيون عن المشاركة فيها)، فإنه لم يبدِ أي اهتمام بتوصيات اللجنة التي عرضت في نهاية آب/ أغسطس 1919، بعد أن كان مؤتمر السلام قد وافق على نص ميثاق عصبة الأمم، بما في ذلك المادة 22 الخاصة بنظام الانتدابات. (نُشر تقرير لجنة كينغ - كرين بشكل غير رسمي في سنة 1922). وكان ويلسون قد ساهم في وضع ميثاق العصبة، لكنه لم يتمكن من الحصول على تصويت إيجابي من مجلس الشيوخ يجيز للولايات المتحدة الانضمام إلى المنظمة الجديدة.
في 24 تموز/ يوليو 1922، ثبّت مجلس عصبة الأمم توزيع الانتدابات في المشرق وفقاً لما تم الاتفاق عليه في مؤتمر سان ريمو في نيسان/ أبريل 1920، بما فيها انتداب بريطانيا على فلسطين وبنود تصريح بلفور. في الوقت نفسه تقريباً، وافق أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، من التوجهين الأممي والانعزالي، بأغلبية ساحقة على قرار مشترك يؤيد "إقامة الوطن القومي للشعب اليهودي في فلسطين" بعبارات مشابهة لتصريح بلفور، باستثناء تخفيض مكانة الأغلبية المسلمة من سكان فلسطين، إذ أشار القرار إلى "الحقوق المدنية والدينية للمسيحيين [هكذا] ولسائر الطوائف غير اليهودية." وفي 21 أيلول/ سبتمبر، وقع الرئيس وارن هاردينغ، الذي خلف ويلسون، القرار المشترك. تجدر الإشارة إلى أن القرار لم يعكس بأي شكل من الأشكال رأياً إجماعياً في أوساط الجالية اليهودية الأميركية. ففي آذار/ مارس 1919، كان 31 شخصية يهودية (بمن فيهم جوليوس كهن، عضو مجلس النواب، وهنري مورغنثاو، السفير السابق لدى الإمبراطورية العثمانية، وسيمون ولف، القنصل السابق لدى مصر)، قد قدموا التماساً إلى ويلسون لدى مغادرته إلى مؤتمر باريس للسلام يحثونه فيه على رفض تصريح بلفور. وسرعان ما انضم إليهم نحو 300 من الأعضاء المؤثرين في الجالية اليهودية الأميركية.
وهنا لا بد من المقارنة بين التبني السلس من جانب الكونغرس والرئيس (وبدرجة أقل من جانب وزارة الخارجية) لمشروع الوطن القومي اليهودي كما تم تأكيده في تصريح بلفور، وبين العلاقة المتوترة بين الولايات المتحدة وبريطانيا بشأن استغلال موارد النفط ضمن أراضي المشرق التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. ففي ربيع سنة 1914، كانت شركة ستاندرد أويل أوف نيويورك (سوسوني) قد حصلت من السلطات العثمانية على حقوق امتياز كاملة لسبعة أحواض في فلسطين. ثم في أثناء الحرب، اضطرت الشركة إلى تعليق أعمال التنقيب، غير أن السلطات العسكرية البريطانية في فلسطين لم تسمح لها في سنة 1919 باستئناف العمل، على الرغم من الضغط الدبلوماسي الأميركي على لندن. وفي نيسان/ أبريل 1920 في سان ريمو، وقّعت بريطانيا وفرنسا، إلى جانب توزيع الانتدابات بينهما، اتفاقية نفطية تلقت فرنسا بموجبها الحصة التي كان يمتلكها المصرف الألماني (Deutsche Bank) في شركة النفط التركية (TPC) قبل الحرب. كان توقيع الاتفاقية يعني استبعاد الشركات الأميركية من المشاركة في شركة النفط التركية في تشكيلتها الجديدة، الأمر الذي أثار حفيظة واشنطن. فوزارة الخارجية الأميركية، مع تسليمها بأن الولايات المتحدة لم تعلن الحرب على الإمبراطورية العثمانية، إلاّ إنها كانت تشدد على أن بريطانيا وفرنسا لم يحوزا الانتدابات في المشرق إلاّ بفضل مساهمة الولايات المتحدة في هزيمة ألمانيا.
في 3 كانون الأول/ ديسمبر 1924، وقّعت الولايات المتحدة وبريطانيا اتفاقية وافقت فيها واشنطن رسمياً على أن تتولى بريطانيا إدارة فلسطين. (في 4 نيسان/ أبريل، كان قد تم توقيع اتفاقية فرنسية-أميركية موازية بشأن سوريا ولبنان). وقد استنسخت ديباجة الاتفاقية، حرفياً، المواد الثماني والعشرين من صك الانتداب كما حددتها عصبة الأمم في 24 تموز/ يوليو 1922. بدورها سلّمت لندن، "على الرغم من حقيقة أن الولايات المتحدة ليست عضواً في عصبة الأمم"، بأن تتمتع الولايات المتحدة ومواطنوها في فلسطين بجميع الحقوق والمزايا التي يمنحها الانتداب للدول التي تنتمي إلى العصبة ولمواطنيها، بما في ذلك حقوق الملكية الأميركية المكتسبة في فلسطين، والحفاظ على المؤسسات التعليمية والخيرية والدينية القائمة، وإنشاء مؤسسات جديدة. أمّا بالنسبة إلى النفط، فقد تبين أن الأراضي العراقية واعدة أكثر بكثير من فلسطين، وفي سنة 1928، حازت الشركات الأميركية على حصتها في ملكية شركة النفط التركية (التي أصبح اسمها شركة نفط العراق IPC).
1944-1924: الكوتا والمثلث الأميركي الألماني الفلسطيني
خلال الأعوام العشرين التي تلت الاتفاقية الأميركية البريطانية لسنة 1924، تمثلت سياسة واشنطن في فلسطين أساساً في حماية المواطنين الأميركيين ومشاريعهم التعليمية والتبشيرية أو مشاريعهم التجارية. وظلت واشنطن متعاطفة مع مشروع الوطن القومي اليهودي، لكنها، بما يتوافق على ما يبدو مع نظرتها الانعزالية، لم تتدخل في كيفية تعامل البريطانيين مع المشكلات الناجمة عن تنفيذ المشروع: الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والاستحواذ على الأراضي، والمعارضة الفلسطينية المتزايدة للصهيونية، والصدامات العربية اليهودية، والبحث عن أرضية مشتركة بشأن فلسطين بين لندن وعمّان والقاهرة والرياض. غير أنه، كان لاعتماد سياسة هجرة متشددة شاملة في الولايات المتحدة، كما تجلت في قانون سُنّ في سنة 1924 (المعروف باسم قانون جونسون-ريد)، الذي حدد حصص الهجرة وفقاً للأصل القومي للمتقدمين بطلبات الهجرة، تأثير غير مباشر، وحتى مباشر، في مشروع الوطن القومي اليهودي.
ففي ألمانيا، أدى صعود النازية ومعاداة السامية المرتبطة بها إلى تبني تدابير تشريعية وإدارية تمييزية ضد اليهود الألمان، الذين كان يقدَّر عددهم بما يزيد قليلاً عن 520.000 نسمة في سنة 1933. وبين سنتي 1933 و1941، تمكن نحو 360.000 منهم من الفرار إلى أوروبا الغربية وأميركا اللاتينية وفلسطين. (تم ذبح الأغلبية العظمى من أولئك الذين بقوا، أي حوالي 160.000 يهودي، في وقت لاحق، بالإضافة إلى اليهود الذين كانون يقطنون في البلدان الأوروبية التي احتلتها القوات الألمانية). أمّا بالنسبة إلى الذين كانوا يرغبون في دخول الولايات المتحدة، فكان عددهم المسموح به خاضعاً لكوتا جونسون-ريد. في سنة 1929 وفي السنوات التالية، حُددت الكوتا للمتقدمين الألمان، سواء كانوا يهوداً أو غير يهود، بـ 25.957، وظلت هذه الحصة كما هي حتى سنة 1939 على الأقل، على الرغم من ظهور النازية. لم يقم الكونغرس بإجراء أي تعديل لزيادة العدد. في الفترة من سنة 1933 إلى سنة 1939، تمكن نحو 95.000 يهودي ألماني من الهجرة إلى الولايات المتحدة، أي بمعدل أقل من 16.000 في العام. وبحلول سنة 1938، كان أكثر من 300.000 ألماني - معظمهم من اللاجئين اليهود - قد تقدموا بطلبات للحصول على تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة، تمت الموافقة على 20.000 طلب فقط في سنة 1939.
في فلسطين، شكلت زيادة الهجرة اليهودية من ألمانيا (ومن بولندا أيضاً) في سنة 1933 وما بعدها، إلى جانب علامات العسكرة الصهيونية، أحد محفزات الثورة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت في سنة 1936 واستمرت حتى سنة 1939. رد البريطانيون بالقمع وبتسليح الهاغاناه، لكنهم اضطروا أيضاً إلى التفكير في مستقبل فلسطين، آخذين بعين الاعتبار موقعهم في الشرق الأوسط والبحر المتوسط في ظل التوتر المتصاعد مع ألمانيا وإيطاليا. وفي نهاية المطاف، في أيار/ مايو 1939، نشروا كتاب ماكدونالد الأبيض الذي قدم عدداً من التنازلات للفلسطينيين، بما في ذلك تحديد سقف 75.000 مهاجر يهودي لمدة 5 سنوات، على أن تخضع الهجرة بعد انقضائها لموافقة العرب، ووضع قيود على نقل الأراضي إلى اليهود في مناطق معينة من فلسطين.
وإزاء هذه التطورات في فلسطين وحولها، والسلوك الألماني العدواني في أوروبا، والأثر التراكمي للتدابير الألمانية المعادية لليهود، استجمعت الحركة الصهيونية الأميركية قواها في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وحصلت على تأييد الرأي العام والكونغرس لدور أميركي فاعل في فلسطين، وحققت هذه المرة وقوف معظم الجالية اليهودية إلى جانبها. اتهم الصهيونيون الأميركيون كتاب ماكدونالد الأبيض بانتهاك بنود الاتفاقية الأميركية البريطانية لسنة 1924 التي نصت على الالتزامات البريطانية تجاه إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين. أمّا وزارة الخارجية الأميركية، فكانت ترى أن الاتفاقية لا تمنع إجراء تغييرات بريطانية على شروط الانتداب، في حين لم يكن للولايات المتحدة أي مسؤولية عن كيفية إدارته. وعلى أية حال، كان على الولايات المتحدة أن تراعي بريطانيا الدولة المهيمنة في الشرق الأوسط، وهي هيمنة سوف تتعرض للتهديد مع اندلاع الحرب العالمية الثانية.
في سياق الحرب، تحول مركز ميزان القوى الصهيوني الداخلي من بريطانيا إلى الولايات المتحدة. ففي أيار/ مايو 1942، اجتمع القادة الصهيونيون من الولايات المتحدة وفلسطين (بمن فيهم دافيد بن -غوريون) في فندق بيلتمور في نيويورك، وأعلنوا رفضهم الكتاب الأبيض لسنة 1939، لكن ما هو أهم، أنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك ودعوا إلى تحويل فلسطين إلى كومنولث يهودي وإلى تشكيل قوة عسكرية يهودية تقاتل تحت علمها الخاص. وفيما بعد، مع المجازر التي ارتكبها النازيون بحق يهود أوروبا، ثم انتصار الحلفاء التام، والمكانة العالمية الرائدة التي اكتسبتها الولايات المتحدة، راحت السلطة التنفيذية الأميركية تتحكم بالتدريج بجدول أعمال فلسطين الدولي بدءاً من مطلع سنة 1945.
وستتمثل المبادرة الأميركية الأولى، في هذا الصدد، في الضغط على لندن لقبول هجرة 100.000 يهودي أوروبي إلى فلسطين فوراً، في حين أنه لم يحدث في أي وقت من الأوقات من سنة 1933 إلى سنة 1945 وما تلاها، أن تبنت الإدارة الأميركية، أو الكونغرس، أو الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة، سياسة بوابة مفتوحة كهذه.