بينما كانت فلسطين غارقة في أتون الحرب وسكانها العرب الأصليون يتعرضون للتهجير القسري، كانت اليابان
ترزح تحت احتلال قوات الحلفاء
بقيادة
في كانون الثاني/ يناير 1952، قبل ثلاثة أشهر فقط من استعادة اليابان سيادتها، وجَّه مكتب الأمم المتحدة رسالة إلى الحكومة اليابانية يطلب فيها مساهمات مالية لصالح وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، لكن الحكومة اليابانية قررت عدم الرد على الطلب بحجة أن فلسطين بعيدة، ولا تربطها بسكانها أي علاقة، وأن اليابان لا تملك القدرة على تقديم المساعدات. وهو قرار يمكن أن يُعزى كذلك إلى العدد القليل من الدول الغربية في الأمم المتحدة التي ساهمت في تمويل الوكالة.
لكن اليابان عادت وقررت في سنة 1953 تقديم مساهمة مالية للوكالة، تمشياً مع توجّهٍ في مرحلة ما بعد الحرب، تمثل في سعيها إلى دعم وكالات الأمم المتحدة مثل منظمة اليونيسف ، وذلك في إطار جهودها للعودة إلى المجتمع الدولي. كما أرادت الحكومة اليابانية أن تكون مساهمتها للأونروا بمثابة رسالة سياسية موجهة إلى الدول العربية الساعية إلى الاندماج في الساحة الدولية، أو بصورة أكثر تحديداً، إلى تلك الدول العربية التي استعادت سيادتها. وعلى الرغم من أن المساهمة الأولى لم تتجاوز عشرة آلاف دولار، فإن هذه المنحة الرمزية لم تكن سوى بداية انخراط اليابان دبلوماسياً في القضية الفلسطينية بعد الحرب.
صدمة النفط وتحوُّل الدبلوماسية اليابانية تجاه الشرق الأوسط
على مدى عشرين عاماً إثر استعادة سيادتها، انصبَّت جهود اليابان على تقديم الاعتذارات والتعويضات في آسيا عن حقبتها الاستعمارية القاسية. وبقيت دبلوماسيتها تجاه الشرق الأوسط
محدودة، مدفوعة برغبتها في الحصول على النفط من دون المرور عبر الشركات الغربية الكبرى. على سبيل المثال، أرسلت شركة إيديميتسو كوسان
Idemitsu-Kosan ناقلات نفط إلى إيران
، وبعد أن أمَّم رئيس الحكومة محمد مصدّق
قطاع النفط الإيراني سنة 1951، كانت ناقلة نيشّو مارو تنقل النفط من إيران إلى اليابان سنة 1953. لكن هذا التبادل التجاري توقف فجأة بعد أن أطاحت الولايات المتحدة و
في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، بدأ المجتمع الياباني يبدي اهتماماً بحركات التحرر من الاستعمار في الشرق الأوسط، بما في ذلك فلسطين. وعندما دعا الرئيس المصري جمال عبد الناصر
ورئيس الحكومة الهندي جواهر لال نهرو
وآخرون إلى تبني مبدأ عدم الانحياز في
طرأ تغيُّر حاد على مسار انخراط اليابان البطيء لكن الثابت في الشرق الأوسط بعد أزمة النفط سنة 1973. فقد توقف النمو الاقتصادي السريع الذي أتاح ازدهار الصناعات الكبرى اليابانية، ومنها السيارات والأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية، مع الارتفاع الحاد في أسعار النفط بعد قرار الدول العربية المنتجة للنفط تقليص الإنتاج بعد حرب عام 1973
. في ذلك الحين، كانت اليابان تعتمد على النفط لتوفير 75 بالمئة من حاجاتها من الطاقة الأولية، 78 بالمئة منها من
وعلى الرغم من اعتراف اليابان بإسرائيل بعد شهر من استعادتها سيادتها (نيسان/ أبريل 1952)، وفتح ممثلية دبلوماسية في تل أبيب سنة 1955 (رُفعت إلى مستوى سفارة سنة 1963)، فإن العلاقات الدبلوماسية والتبادل الثقافي مع إسرائيل ظلا ضعيفين، باستثناء بعض المسيحيين والمجموعات الشبابية التي انجذبت إلى حركة الكيبوتس. وأدت أزمة النفط سنة 1973 إلى تراجع العلاقات اليابانية الإسرائيلية لما يقارب نصف قرن. في المقابل، ارتفعت مساهمة اليابان في وكالة الأونروا إلى خمسة ملايين دولار سنوياً بدءاً من سنة 1974. ونظراً إلى أن هذا التحول في الموقف نبع أساساً من اعتبارات أمن الطاقة، انتقد البعض في اليابان هذه السياسة التي سُمِّيت دبلوماسية النفط (أبورا)، لا دبلوماسية اليابان العربية.
تطور العلاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية
في سبعينيات القرن العشرين، طرأت سلسلة من الأحداث التي دفعت اليابان إلى التفاعل مع القضية الفلسطينية. ففي 30 أيار/ مايو 1972، هاجم كوزو أوكاموتو واثنان من أعضاء الجيش الأحمر الياباني مطار اللد في إسرائيل، في حادثة أبرزت البعد الدولي للثورة الفلسطينية. وفي سنة 1975، زار ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان ، شفيق الحوت ، طوكيو بدعوة من مجلس اليابان لمناهضة القنابل الذرية والهيدروجينية (جنسويكيو)، ومن مؤتمر اليابان المناهض للقنابل الذرية والهيدروجينية (جنسويكين). ونسَّق الحوت مع أعضاء الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم لإقامة مكتب للمنظمة في طوكيو. وقد زار الحوت اليابان مرتين قبل أن يفتتح المكتب التمثيلي للمنظمة في شباط/ فبراير 1977. وكان شفيق الحوت قد اصطحب في زيارته الثانية فاروق القدّومي ، رئيس الدائرة السياسية في المنظمة، والتقى القدّومي حينها رئيس الوزراء تاكيو ميكي (الحزب الليبرالي الديمقراطي) الذي سبق أن ترأس وفداً إلى الشرق الأوسط بعد أزمة النفط. كما زار جمال الصوراني ، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة ، مدينتي يوكوهاما وطوكيو سنة 1975. وفي تشرين الثاني 1977، عُقد مؤتمر كبير حول القضية الفلسطينية في مركز يوكوهاما الدولي للمؤتمرات بمشاركة نحو 600 باحث وسياسي.
منذ افتتاحه في سنة 1977، نشط مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في طوكيو في التواصل مع السياسيين اليابانيين، إلى جانب الكتَّاب والمثقفين والصحافيين. وعزَّز إصدار مجلة "فلسطين بلادي "(Firasutin Biraadi ) باللغة اليابانية اهتمام المجتمع الياباني بالقضية الفلسطينية. وصدر من المجلة 43 عدداً بين تشرين الأول/ أكتوبر 1979 وأيلول/ سبتمبر 1983. وفي حزيران/ يونيو 1979، تأسَّست لجنة الصداقة البرلمانية اليابانية‑الفلسطينية برئاسة توكوما أوتسونوميا، ويوشيكو ياماغوتشي أميناً عاماً، وهو ما مهد الطريق لزيارة رئيس المنظمة ياسر عرفات إلى اليابان سنة 1981.
خلَّف الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 ومجزرة صبرا وشاتيلا التي تلته صدمة عميقة في اليابان، لا سيما وأنها ارتُكبت في فترة شهدت تنامي القلق في المجتمع الياباني بشأن القضية الفلسطينية من منطلق أخلاقي. وفي آذار/ مارس 1983، التأمت في طوكيو "المحكمة الشعبية الدولية بشأن العدوان الإسرائيلي على لبنان "، وانخرطت منظمات غير حكومية يابانية في الثمانينيات في دعم الشعب الفلسطيني.
علاقات اليابان مع السلطة الفلسطينية وإسرائيل بعد اتفاق أوسلو
أخذت الحكومة اليابانية تؤكد تفضيلها خيار حل الدولتين الذي يفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة. وفي أعقاب أزمة الخليج و
لم يزرْ أي رئيس حكومة ياباني فلسطين أو إسرائيل إلاّ بعد إنشاء السلطة الفلسطينية في سنة 1994. ففي سنة 1995 زار رئيس الحكومة المنتمي إلى الحزب الاشتراكي الياباني تومييشي موراياما إسرائيل والأراضي الفلسطينية. ومنذ ذلك الحين، كان رؤساء الحكومات ووزراء الخارجية اليابانيون يلتقون بمسؤولي إسرائيل والسلطة الفلسطينية خلال الزيارة نفسها للمنطقة.
تقوم السياسة الخارجية اليابانية الرامية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط على ثلاث ركائز: الحوار السياسي مع الأطراف المعنية؛ بناء الثقة بين تلك الأطراف؛ تقديم المساعدات الاقتصادية للفلسطينيين. وقد واصلت اليابان دعم المجتمع الفلسطيني عبر الوكالة اليابانية للتعاون الدولي
(جايكا) ووكالة الأونروا، وكذلك من خلال برنامج الأمم المتحدة للتنمية
الذي كانت اليابان قد أنشأت ضمنه صندوق التنمية الياباني الفلسطيني
سنة 1988، بهدف بناء المؤسسات وتطوير البنية التحتية وتنمية الموارد البشرية. وبالإضافة إلى المساعدة المالية المقدمة للفلسطينيين من خلال المنظمات غير الحكومية الدولية اليابانية، دعمت الحكومة اليابانية بناء مطار غزة الدولي
. كما قدّمت منحاً ومساعدات للمستشفيات الفلسطينية. وفي مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، تكفَّلت ببناء مظلة ضخمة لحماية موقع وفسيفساء
في سنة 2006، أطلقت حكومة جونيشيرو كويزومي مشروع "ممر السلام والازدهار " لبناء مدينة أريحا الزراعية الصناعية بالتعاون مع السلطة الفلسطينية والحكومتين الإسرائيلية والأردنية. وفي سنة 2013، انطلق مؤتمر التعاون بين دول شرق آسيا من أجل تنمية فلسطين ، وهو إطار إقليمي تشاركي بدعم من دول شرق آسيا ووكالات الأمم المتحدة مثل برنامج الأمم المتحدة للتنمية ووكالة الأونروا. ودعمت اليابان بناء المؤسسات الفلسطينية بالاستفادة من الخبرات الشرق آسيوية في التنمية الاقتصادية.
وفي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، اتجهت الحكومة اليابانية نحو تعزيز العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل. وتحت إدارة شينزو آبي ، بدأ البحث عن سبل التعاون في المجال الأمني، وازداد عدد الشركات اليابانية العاملة في إسرائيل، كما ارتفعت قيمة الاستثمارات اليابانية فيها. وفي سنة 2017، وُقِّع اتفاق الاستثمار بين اليابان وإسرائيل ودخل حيّز التنفيذ. وفي السنة نفسها، شُكِّل مجلس بحثي لوضع اتفاق شراكة اقتصادية بين البلدين.
اليابان والإبادة في غزة
واجه نمو العلاقات بين إسرائيل واليابان عراقيل كبيرة جراء الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة منذ تشرين الأول 2023. وفيما طالبت الحكومة اليابانية حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، فقد حثَّت الحكومة الإسرائيلية على الوقف الفوري لإطلاق النار وتحسين الوضع الإنساني في القطاع. وبناء على موقفها الرافض لنشاطات الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية باعتبارها انتهاكاً للقانون الدولي، فرضت اليابان في تموز/ يوليو 2024 عقوبات اقتصادية لأول مرة على أربعة مستوطنين ثَبُت تورطهم في أعمال عنف.
لكن في أيلول 2025، امتنع رئيس الحكومة شيغيرو إيشيبا
عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية على الرغم من اعتراف دول أوروبية مثل المملكة المتحدة و
Farrell, William R. Blood and Rage: The Story of the Japanese Red Army. Toronto: Lexington Books, 1990.
Katakura, Kunio. “Narrow Options for a Pro-Arab Shift: Japan’s Response to the Arab Oil Strategy in 1973.” Annals of Japan Association for Middle Eastern Studies 1 (1986): 106–49.
Miyagi, Yukiko. Japan’s Middle East Security Policy: Theory and Cases. Abingdon and New York: Routledge, 2008.
Naramoto, Eisuke. “Japanese Perceptions on the Arab-Israeli Conflict.” Journal of Palestine Studies 20, no.3 (1991): 79–88.
مراجع باليابانية:
池田明史. 2002.「日本とパレスチナ問題――歴史的回顧と若干の観察――」『国際情勢』第512号、43–57ページ
(إيكيدا، أكيفومي. "اليابان والمسألة الفلسطينية: مراجعة تاريخية وملاحظات تحليلية". الشؤون الدولية، العدد 512 (2002)، ص. 43–57.)
板垣雄三. 2012.「日本とパレスチナをつなぐ市民運動のあゆみ」『復刻版〈パレスチナ問題を考える〉シンポジウムの記録』第三書館、奥付1–18ページ
(إيتاغاكي، يوزو. "تاريخ الحركة المدنية التي تربط بين اليابان وفلسطين". في: يوزو إيتاغاكي، "دراسات في القضية الفلسطينية: سجلات الندوة"، طوكيو: دار دايسان للنشر، 2012، ص 1–18.)
臼杵陽. 2013.「パレスチナ問題と日本」『世界史の中のパレスチナ問題』、講談社、390–410ページ
(أوسوكي، أكيرا. "القضية الفلسطينية واليابان". في: أكيرا أوسوكي. "القضية الفلسطينية في التاريخ العالمي"، طوكيو: كودان-شا، 2013، ص 390–410.)
鈴木啓之. 2016.「対パレスチナ外交」臼杵陽・鈴木啓之編『パレスチナを知るための60章』明石書店、340–344ページ
(سوزوكي، هيرويكي. "الدبلوماسية اليابانية تجاه فلسطين". في: أكيرا أوسوكي وهيرويكي سوزوكي (تحرير). "ستّون فصلاً لفهم فلسطين"، طوكيو: أكاشي-شوتن، 2016، ص 340–344.)
田浪亜央江. 1998.「日本における国際〈連帯〉運動――パレスチナ〈連帯〉運動――」フォーラム90s研究委員会編『20世紀の政治思想と社会運動』社会評論社、203–214ページ
(تانامي، آوي. "حركة 'التضامن' الدولية في اليابان: حركة 'التضامن' من أجل فلسطين". في: لجنة أبحاث منتدى التسعينيات (تحرير). "الفكر السياسي والحركات الاجتماعية في القرن العشرين"، طوكيو: شاكي-هيورون-شا، 1998، ص 203–214.)
役重善洋. 2018.『近代日本の植民地主義とジェンタイル・シオニズム――内村鑑三・矢内原忠雄・中田重治におけるナショナリズムと世界認識――』インパクト出版会
(ياكوشيغي، يوشيهيرو. "الاستعمار الياباني الحديث والصهيونية غير اليهودية: القومية والرؤى الفكرية لدى أوتشيـمورا كانزو، يانايهارا تادااو، ونكادا جوجي". طوكيو: إمباكت-شوبّانكاي، 2018.)
محتوى ذو صلة
إجراء عقابي اقتصادي - اجتماعي
النفط العربي سلاح في المعركة
1973
17 تشرين الأول 1973 - 21 تشرين الأول 1973